على رأس قمر ملحي مكتمل ، وعلى حواف إبريق جسدي الفخاري تتناطح تيوس الموج الأبيض دفاعاً عن سليل الآلهة إذ يهدر بما كتبه الشعر والأدب، ذلك هو رب المعنى الوحيد الباقي في السرد، بعد أن إرتشح منه الملح بإتساع طرق التجارة البحرية ونداء السيف و الكهنة.
لا أعلم ما الذي ينزع فيَّ إليه، ويتبصر به داخلي، أو ما سأكونه تالياً في حضوره يوماً، أهو الملح في الدم وحنينه إلى الأزلي في الموج تماماً كالرحم أم الفخار في طين الأيروس رملاً و موجاً...
أنظر إليها والشمس تتواطأ والهواء فتعري عن فخذيها العاجيين رداء الحكاية والظل... جسدها الضاج باللون يعطي البحر والزبد مواثيق جديدة لربة الشعر. هاوية زرقاء للبحر ترمي عنها أفقها، وتلملم الحد الرملي للكون فتنثره قمحاً من كاحلها الناتئ في دمي، إلى وسطها مدار الشمس، فتنعكس الآية ليطوف بفخذيها نسيم البحر عارياً تحت اكتمال بدرين في سماءها، علَّه يحبل بالمجاز، لتصبح الوثنية حينها الرسالة والرسول، ولتنزع عن الجاهلية سوء إنسانيتهم.
وها هي تخرج من السكون إلى الشد، تتحدث إليه به تماماً كما العشاق ، تشهد من لا يُسأل يوم السؤال النازح. هممت للحظة أن أترك شَاهْدَيَّ الرصاص و الورق، وأن أذهب لأستوثق منها إيايَّ... هل أنا هنا ؟ أم أن الخيال أفرط في صدقه؟ لِم ترجمان الأزرق يخذله النطق دوماً فيتدثر بخيالاتنا الثرثارة؟ لما لايكتمل بدوراناته فينا؟ ماذا كان ليقول لنا وللسماء والملهاة؟
حينئذ، تمسك بي زماني ومكاني، وصرخا قائلين بتراجم الخديعة: "أمكث، أنت هاهنا شاهد، لا تتحرك فتنهار الجهات"، وما أن أفقت من خرسهما فنظرت إلى إيقاعهما حتى وجدت الموج ينهش ماتبقى من ظلها على الأرض ... فقط حيث وطأت من خيالي وواقعه، لتخرج سرطانات المعنى الصغيرة حولي من ثقوب تتنفس منها الأرض ، فتُكَوِّر ماتبقى لي من خيالها وتهرب به إلى حُفرها في جلدي.
لا يترك الموج حقاً له فيها وفيَّ إلا وأخذه، فبعد رسالة إبتلعها من خيالي لخياله، هاهو يبعث بعسسه يفتشون
دمي ككهنة السلطان ، ويجمعون حروفها منه في سلال نسجوها من أصداف سرطانات أَبَت أن تخدم السيف، فكانوا عبرة للخيال.
لا أظنها تصغي إلى "أخوة الإنسان و الحيوان" في دمي ، بقدر ما يُشهِّدُني الزبد على أنوثة الآلهة و التوحيد فيها، تلك التي على جانبي سرتها الحكاية استوت الجنة و النار، إن داعبها الموج ، إنهار الرمل/الملهاة ، وانتهت المسرحية.
وفجأة يأتيني هاجسها : "إقلب الصفحة، وأكتبني مع بدء البياض، حينها ستراني ولن يشم العسس رائحة ملحي يمس رصاص قلمك بين نهديَّ، ولا تكتب لشمس غيرها، هي المنسية في برتقال شرق متوسطك، وأنظر سترى تجاعيدها، وإن علا الموج بينكما ، فإلبث، و كُنه.. وإصبر، فالزمن ملك يديك والمعنى. ستمر بها وستأتيك في اللون، وستقف أنت وإياها والضوء على إستقامة واحدة. لا تبحث عن غيرها وإن تجملت السُكنى".
وقبل أن أخطو إليها بقدم في النوايا الرمال، أشارت إليّ بأنامل تخيط أسماء السماء مذنبات وشهب، قائلة:
- "لا تخطُ إليَّ في المدى و الملح".
- "لماذا؟"
- "سأظل ضجيج جسدك و المعنى.. "
ومسدَّت على خيالاتي المجموعة في صرة كتب عليها إسمها بلغة النجوم، وأكملت:
- "ستظل نصف حلمي ومدينتي، أنا النقطة حيث تجتمع أفراحك وأحزانك معاً، أوطانك ومنافيك، وتتعاجن كطينتك الأولى في البرتقال قبل مس الآلهة، لا تكن إلاك كاملا بمنتهى النقصان... فيلتقط لنا الزبد صورة فوتوغرافية، تجلس فيها أنت على كرسي المعنى، وأقف أنا خلفك مثل الأولمب، لتسند رأسك بين نهديَّ، فلا يعلم الأبد من أمر غزلنا إلا ماتظهره له الصورة، ولا تقلق إذ ضج بنا، وهدر بجنده: "آتوني بهما" ، فأنا أسطورته التي منها كان.. . سأصعدك وتنزلني، ولا تُكذب نداء البحر المؤنث في موجك، فهو من جعل الجبال الذكور أوتاداً".
البحر يعيد صياغة ذاكرتي والمكان، فهاهو الملح يرشح منهما لينكسر الضوء لوناً، ويعيد لاعتبارات المسافة داخلي وحولي ألقها، أنا ابن المدينة/المنفى، أنا ابن الهاجس المتمدن بالفقد والعويل المنمق بالزجاج والمعدن، حيث لا تراجم للشكل ولا لللون، هو نقل لا تأمل فيه، هناك في المدينة المنفى نظل أضداداً لذواتنا، لا بمعنى
الرحلة و الذهاب لآخرنا، إنما بالنفي نتواجد فيها.
تتشح بالثبات في المنافي والمتاهات والمعارك المتخيلة مدننا وبلادنا، ماذا لو كانت مبنية على ظهر حوت كضباب متزن بغرور بين تواطؤ الموج وصدق الخيال..؟؟؟
ماذا لو قرر الحوت أن يغوص في الأعماق –أعماقنا و أعماقه- ؟؟
أترانا نرتق الخيال حينها بنوءة الواقع أم نتعامى عن صدق الخيال؟؟
رمت في جوفي المالح تساؤلها، فاتضح أمر المسافة والمكان مني، كنبوءة قتلت صاحبها ومارست الجنس مع جسده الحي ليؤمن النص بأن النبي ضحى بنفسه لأجلها دوني. الآن زال الضباب الشفيف إلى أرض ذاكرتي وهويتي، وهاهو الزبد تركع تيوسه أمامي تاركة تيجانها البيضاء على عتباتي، وقد كتب عليها:
"البحر عماد المعنى والمكان، فلا بحر في الجنة، فقط لبن وعسل. الجنة تقع على الطرف الثاني من البحر تماما كالعرش والله، والمعنى".